Dilatato Corde 1:2
July – December, 2011
DSC05858_(480x360)(2).jpg

حديث عن المحبة الإلهية لأكثر من ألف صوفي

أعتقد أن الحديث عن المحبة الإلهية لأكثر من ألف صوفي في قرية من صعيد مصر ليس خبرة مألوفة لشخص غير مسلم، وخاصة إذا كان هذا الشخص راهبًا مسيحيًّا. على آية حال هذا كان ما حدث لي في الأيام 21 – 23 من شهر سبتمبر هذا العام 2011.

لقد وصلتني الدعوة إلي مهرجان صوفي من طرف الشيخ حسين البيومي وهو شيخ طريقة صوفية محلية متواجدة في قرية اسمها البُصَيلية شمال مدينة أدفو (محافظة أسوان)، وهذه مدينة مشهورة بمعبد فرعوني لا يزال على شكله الأصلي تقريبا.

دعانا هذا الشيخ الكريم لحضور احتفال طريقته بمناسبة ذكرى وفاة الشيخ المؤسس لها، هو الشيخ البيومي (المتوفى 1938)، فمن اسمه سميت الطريقة بالبيومية. من المعروف أن مثل هذه المهرجانات تقام عادة بالقرب من أضرحة الأولياء الذين يكرمهم عامة الناس خاصة في الريف. ومعروف أيضًا أن تلك الممارسات الصوفية كثيرًا ما لقيت مقاومة شديدة من طرف عدة اتجاهات دينية متعصبة، خاصة من تلك التي تتمسك بحرفية ظاهر النصوص الدينية.

ومن دوافع هذه الدعوة كان بلا شك عملي الطويل ودراساتي الواسعة فى التصوف الإسلامى، خاصة مع نشر كتاب عن مختارات النصوص الصوفية تحت عنوان: التجليات الروحية فى الإسلام نصوص صوفية عبر التاريخ (فى الهئية المصرية العامة للكتاب بتصدير الأستاذ الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر حاليا). فقد وجد هذا الكتاب قبولا حسنًا ونجاحًا كبيرًا لدى الناس ليس فقط لدى المثقفين منهم بل أيضا لدى عامة الشعب أيضًا، خاصة لدى الذين ينتمون إلى الطرق الصوفية. لقد سمعت من الكثير منهم أنهم وجدوا فيه استجابة لمطالبهم. والجدير بالذكر أني أنجزت هذا العمل بمساعدة تلميذي وزميلي (الآن بعد حصوله على درجة الدكتوراه في التصوف) أحمد حسن أنور. والواقع أن هذا الكتاب فتح لنا عددًا كبيرًا من الأبواب، من لقاءات وندوات ومؤتمرات مع الكثير من المثقفين في مصر. وهذا لأنهم تأكدوا من خلال المؤلفات التي قدمتها للثقافة العربية والإسلامية أنني صاحب سمعة طيبة في البيئات الثقافية كباحث جاد ومحترف في مجال التصوف الإسلامي.

هكذا دعينا، نحن الإثنين، إلى حضور هذا الملتقى الصوفي الذي عقد بالبصيلية، فاشتركنا فيه مع حشد غفير من الشعب المحلى والغير محلى، فقد دعيت إليه الكثير من الطرق الصوفية من كل صعيد مصر. وفى الليلة الكبيرة، يوم الخميس 22 سبتمبر، يقدر أن الحضور كان يتراوح ما بين 1000 إلى 2000 شخص. فبدأ الاحتفال الساعة العاشرة مساء بمحاضراتنا، ثم استمر حتى الساعة الرابعة فجرًا. وأحيا ذلك الحفل الغزير منشد محلي معروف، هو أمين الدشناوي، الذى قام بالإنشاد والمديح النبوي أكثر من خمس ساعات متواصلة. وكان الحاضرون ينسجمون مع ألحانه بالرقص الصوفي المعروف، فكانوا يتحركون بحركات متصاعدة قد تؤدي إلى حالة من الوجد والفناء الصوفي.

وكان الشيخ قد طلب منا أن نوضح مفهوم التصوف لهؤلاء الناس البسطاء الذين غالبًا ما يعيشونه على المستوى الوجداني أكثر منه على المستوى العلمي. فقدمنا خلال حديثنا عدة ردود على الاتهامات الكثيرة التي يُرمى بها الصوفية من طرف بعض التيارات الدينية التي تتمسك بقراءة حرفية لظاهر النصوص الدينية.

وفى محاضرتي أبرزت بعض الجوانب المهمة في التصوف الإسلامي. فمنها أولا: أولوية الجانب الروحي في الدين على الجانب الطقوسي. فلا تكفى الممارسة الظاهرية للفرائض الدينية إن لم تصاحبها توبة نصوح في القلب. فهذا موضوع أساسي ومنتشر في التعليم الصوفى، قد نجده أيضًا في عامة الروحانيات الدينية الأخرى. وفى هذا الموضوع هناك عدد كبير من النصوص الصوفية يجب معرفتها لكي تساعد الناس على إتباع الطريق المستقيم في الحياة الروحية. وبعد ذلك أبرزت موضوعًا آخر، هو حب الله، أي حب الله لنا وحبنا لله. والحب الصوفى هذا يعني عندهم حبًّا شاملاً متفتحًا لكل الإنسانية بل للكون كله. وقد أثبتُّ على أساس الكثير من النصوص الصوفية أن أكابر الصوفية، من أمثال حجة الإسلام الإمام الغزالي والإمام القشيري وغيرهما، وضعوا الحب على قمة سلوك الحياة الروحية. وهناك أيضًا، أي فى هذا الموضوع، نجد عددًا كبيرًا من النصوص الصوفية يجب أن تعرف عند الكل. ولاحظنا أن هذا الموضوع (أي حب الله) مس وجدان هؤلاء الناس، فكان يظهر على وجوههم انفعالهم بما نقول. والواقع أن الكثير منهم بعد المحاضرة صارحوا لنا أنهم تأثروا بهذا الكلام، بدءًا بشيخ الطريقة نفسه.

أما تلميذي د. أحمد حسن فتناول بعض القضايا المتعلقة بقضية التصوف، من أمثال مصدر التصوف، ومعنى أسم التصوف، ومكانته في الإسلام، وآراء أشهر مؤرخي الإسلام عن التصوف والصوفية، وموضوعات أخرى من هذا القبيل. وكانت خاتمة كلامنا هذا إثبات أن التصوف الإسلامي ليس حركة هامشية في الحضارة الإسلامية وتاريخها، بل بالعكس، فهو جزء مهم لا يتجزأ منها. فتجاهل التصوف في التاريخ الإسلامي يعني في الحقيقة نزع عنه الكثير من التجليات الحضارية العظيمة من أدبية وفنية وشعرية في غاية الأهمية. والحقيقة أن الصوفية كانوا على الدوام مصدر إلهام وفير للفن والتفكر في كل المجالات، وكذلك كانت الطرق الصوفية عاملاً مهمًّا جدًّا في مجال التربية الأخلاقية للأمة الإسلامية على كل المستويات. فمن بين الصوفية نجد الكثير من أبرز المربيين الأخلاقيين والمرشدين الروحيين في مجال الإنسانية والدين. وكذلك نجد بينهم مفكرين كبارًا من أمثال الشيخ الأكبر محيى الدين بن العربي (المتوفى 1240م)، الذي لا تزال مؤلفاته تجذب اهتمام عدد كبير من القراء على المستوى العالمي.

أما المفاجأة الأخيرة لقصتنا فحدثت لنا فى مدينة أسوان حيث ذهبنا بعد المهرجان الصوفي. فبينما نحن نتمشى في السوق استوقفنا رجل يحمل طفل على كتفيه ويمسك طفلاً آخر بيده. في أول الأمر اعتقدنا أنه كان يريد الاستفسار عن شيء ما. إلا أنه فاجأنا بتعبيرات عن عميق شكره على ما قلناه فى الاحتفال الصوفي بالبصيلية، فقد كان حضره فيها... وبعد ذلك عرَّف نفسه على أنه شيخ مسجد الحاج حسن، وهو من أشهر وأقدم مساجد أسوان الواقع في منطقة السوق السياحي ليس بعيدًا عن الكنيسة الكاثوليكية هناك. إثر هذا، قدم لنا هذا الشيخ بعض الهدايا الرمزية ودعانا لزيارته فى المسجد. فذهبنا هناك فى اليوم التالي، وأجلسني هو على كرسي الخطابة مودة لي، وقعدنا ساعتين تقريبًا نتحدث عن أهمية التصوف الحقيقي والحياة الروحية العميقة والمحبة الصادقة بين الناس... وموضوعات أخرى من هذا القبيل... ثم انصرفنا عنه وقلبنا مليئ فرحًا وسلامًا.

أظن أنني لست من السذاجة لدرجة أن أعتقد بأن محاضرة واحدة تكفي للتأثير في قلوب الناس وتصرفاتهم وكأنه بمعجزة. إلا أن هذا الحادث بدا لي إيجابيًّا لدرجة كبيرة. فهؤلاء الناس قبلوا مني الحديث عن المحبة، وأظهروا اهتمامهم البالغ بل شوقهم العميق لمثل هذا الموضوع. فقد كانو يتمنون أن تكون هناك لقاءات أخرى من هذا القبيل، بالإضافة إلى عنايتهم الأخوية بنا طول فترة إقامتي معهم. وأنني لا أزال على اقتناع راسخ أن الروحانيات تثبت أنها من أهم مجالات الحوار بين الأديان بصفة عامة، ومع الإسلام بصفة خاصة.

إن الروح يهب كما يشاء... ينبغي بنا أن نتركه يهب حيثما يشاء.. إننا لسنا إلا وسائل لعمله في قلوب الناس.. فعلينا فقط أن نصلى لكي يدخل هذا الروح فيهم كلهم معطيًا إياهم حياة ملكوت الله، خاصة من خلال ممارسة الوصية الكبرى: هى محبة الله والقريب.....

إن شاء الله .

الأب أ.د. جوزيبي سكاتولين

أستاذ التصوف الإسلامي بالمعهد البابوي للدراسات العربية والإسلامية بروما

القاهرة 1 أكتوبر 2011م.

 
 
Home | DIMMID Introduction | DILATATO CORDE
Current issue
Numéro actuel
| DILATATO CORDE
Previous issues
Numéros précédents
| About/Au sujet de
DILATATO CORDE
| News Archive | Abhishiktananda | Monastic/Muslim Dialogue | Links / Liens | Photos | Videos | Contact | Site Map
Powered by Catalis